النهاردة يا أخ مرسى , هنتكلم عن القيم المطلقة
أنا محبش أتكلم عن حد وهو مش موجود
ينبئني شتاء هذا العام أن ما ظننته
شفاي كان سُمي
وأن هذا الشعر حين هزّني أسقطني
ولست أدري منذ كم من السنين قد جُرِحت
لكنني من يومها ينزف رأسي*
أنا قليلة الصبر على الدراما التلفزيونية .. لا أتحمل ان أجلس قرابة الساعة لمشاهدة حلقة (كاملة) من مسلسل أى كان , وبالطبع خارج نطاق استمتاعى أن اتابع حدث طويل ممتد الى 30 حلقة .. 30 يوم , ليه يعنى ! .. لذلك عندما صادفتنى نهال عنبر وهى تصف لزوجها انها (مخنوقة مخنوقة مش قادرة .. عايزة أعيط ومش عارفة ) وكان واضحا ان من يقوم بدور الزوج الحنون قد ألحق فشلا بآخر فى محاولات اخراجها من تلك الحالة حتى ذهب بها الى مطعم تشى توتو الذى يمتلكه سمير غانم وفاروق الفيشاوى أبطال المسلسل .. تذكرت انى شاهدت دقيقتين من حلقة اليوم السابق من نفس المسلسل وأستنتجت انها حلقات منفصلة وأغرانى ذلك بالمتابعة الى جانب طبعا شوقى لمعرفة أى طريقة مبتكرة سيخرج بها الثنائى صاحب المطعم زبونتهم من أحزانها أو بشكل أدق كيف سيخرجوا أحزانها الحبيسة منها ...
يبدأ نجاتى أو سمير غانم بالمحاولة .. يحكى لها بتأثر عن أحزانه وذكريات مؤلمة من حياته .. فتكون النتيجة ان تنطلق منها ضحكات بدلا من الدموع
ويستمر من محاولة فاشلة الى أخرى حتى انه ينصح زوجها ان يلطشها ألمين .. فتكون النتيجة ان تردهم اليه عشرة !
ثم يأتى عادل او فاروق الفيشاوى بالحل !
يذهب الى الزوجة بطبق يحتوى بصلتين و سكين ويطلب منها ان تبدأ فى تقطيع البصل ويبدأ هو فى التحدث كساحر فى خطبة قصيرة يحسها ان تتذكر كل أحزانها وكل ذكرياتها المؤلمة .. كل الأعزاء الذين رحلوا والذين خدعوا , تذكرى البؤساء فى كل انحاء العالم , من لا يجدون الطعام , المرضى والمشوهين .. وهكذا
وتنجح طقوس البكاء تلك فى أطلاق دموعها ثم شفاءها .
المسلسل ليوسف معاطى ويدور فى أطار كوميدى .. الطرح الكوميدى لفكرة الأحزان والوجع يحتاج قدر من الأبداع فعلا .
باقى الحلقة يدور حول جعل المطعم ككل يغرق فى دموع زبائنه بتقديم خدمته الخاصة جدا بطريقة طقوس البكاء .
فى أضواء خافتة و ترابيزات ممتلئة عن آخرها برواد مشتاقين الى الدموع يبدأ الندلاء بتقديم الطبق الأفتتاحى .. بصلتين وسكينة .. ويحث عادل الرواد على أخراج ما فى نفوسهم الممتلئة بالهموم .. ويبدأ الجميع فى التقطيع والنحيب والدموع .
الرواد من كل الأعمار والطبقات , ليوثق حقيقة ان لكل همومه .
وحيث يجلس رجل كبير وقور نعرف فيما بعد انه سيادة المستشار يستأذنه 3 من الشباب المكتئب الساعى الى الدموع فى مشاركته المائدة لأزدحام المكان (لاحظ شاعرية الوصف .. شباب مكتئب .. شباب يائس , هناك شىء خاطىء الا يبدو لنا الوصف مستهجنا .. اعتدناه! )
يفزع الرجل لفكرة ان يأتى من هم فى أعمارهم لمكان كهذا وأمامهم من العمر قدر ما أستهلك هو الذى لم يعد أمامه الكثير.. فتبدأ مشاهد تعريفنا بهم وبهمومهم .. خريجين أداب وتجارة وفنون مسرحية .. الأول اليوم خطوبة حبيبته الى عريس جاهز لأن ابيه كراجل كبير محترم مثل سيادة المستشار هزأ من رغبة ابنه فى التقدم ليخطب حبيبته ووالدها راجل كبير محترم مثل ابيه وسيادة المستشار كان سيرفض حتما شاب فى أول طريقه مثله ..
الآخر أعياه البحث عن عمل وقتل أحلامه .. خرب من الداخل لكنه مازل يمثل التماسك اما اسرته التى تعقد عليه امالا .. وعندما استفهم المستشار لماذا لم يلجأ الشاب الى احد من أقاربه المهمين ليتيح له فرصة عمل أجابه بسخرية ممزوجة بألم بأنه أهم واحد فى عيلته و ان أحلاما تبنى عليه .
الأخير موهوب كتب فيلما واعد السيناريو وذهب به الى منتج او مؤلف كبير الذى يسرق منه عمله ليفجأ به فى دور عرض السينما باسم شخص آخر .
ثم فى مشاهد قصيرة لا قيمة لها يخبرنا عادل ونجاتى انهم قاموا بحل مشاكل هؤلاء الشباب .
عقدت مقارنة حينها أغاظتنى .. لماذا يصر كتاب الدراما على أظهار الجامعيين المحبطين المتخبطين فى الحياة من خريجى كليات التجارة و الأداب وأحلامهم المهشمة.. و عندما يميلوا للتغير يبدأوا بالمهندسين ثم الأطباء حديثى التخرج ... وعندما يذكرون الصيادلة فهم فى الغالب قتلة وفاسدين ! حتى الأحباط مش واخدين فرصتنا فيه .
تذكرت حكاية صديقتى مرة عن اندهاشها من كثرة الباكين فى وفاة جدتها حتى انها ابدت دهشتها لأمها انها لم تكن تعرف ان جدتها العجوز تعنى الكثير لهؤلاء غير القريبيبن .. فأخبرتها والدتها عن السر المعروف .. كل واحدة بتفتكر اللى ماتولها وتعيط عليهم مش على جدتك .
انت تبكى لأحزان الأخرين عندما تلتقى مع جزء من همك .. يستفز المشهد المؤثر دواخلك الحزينة أو المستكينة , تبتل الرواية فى يديك عندما ترى نفسك او عزيز عليك فى موقف بطلها وليس تعاطف برىء مع مجهول وهمى .
الآن بين أيديكم الوصفة .. ألتزموا فقط بالطقوس .. جو هادىء , ضوء خافت و تجنبوا الأماكن المفتوحة .. وفرة الأوكسيجين تسبب البهجة .
لا تنسوا المحارم الورقيةالـ soft tissues
وطبعا البصلتين والسكين !
الحقيقة مذهلة زى الخيال .. والمشاكل كلها علو الجبال*
والسكك بتضيق علينا .. واختيارنا بين أدينا
لا تبك على فائت" من كتاب "جدد حياتك" للإمام محمد الغزالى رحمه الله
"إن ((دايل كارنيجى)) يلجأ إلى العقل ليصل بنا إلى الغاية فيقول:
(من الممكن أن تحاول تعديل النتائج التى ترتبت على أمر حدث منذ 180 ثانية , أما أن تحاول تغيير الأمر فهذا هو الذى لا يعقل . وليس ثمة إلا طريقة واحدة يمكن بواسطتها أن تصبح الأحداث الماضية إنشائية مجدية . تلك هى تحليل الأخطاء التى وقعت فى الماضى والاستفادة منها ثم نسيانها تماما .
أنا أؤمن بهذا تماما , ولكن هل ترانى أملك الشجاعة دائما لأفعل ما أؤمن به ؟! ثم قال حدثنى ((سوندرز)) أن مستر ((براندوين)) مدرس الصحة بكلية ((جورج واشنجتون)) علمه درسا لن ينساه أبدا , ثم قص على قصة هذا الدرس فقال : لم أكن بلغت العشرين من عمرى , ولكنى كنت شديد القلق حتى فى تلك الفترة المبكرة من حياتى ,فقد اعتدت أن أجتر أخطائى , وأهتم لها هما بالغاً . وكنت إذا فرغت من أداء امتحان وقدمت أوراق الإجابة , أعود إلى فراشى فأستلقى عليه , وأذهب أقرض أظافرى وأنا فى أشد حالات القلق خشية الرسوب , لقد كنت أعيش فى الماضى وفيما صنعته فيه , وأود لو أننى صنعت غير ما صنعت , وأفكر قيما قلته من زمن مضى , وأود أننى قلت غير ما قلت .
ثم إنى فى ذات صباح ضمنى الفصل وزملائى الطلبة , وبعد قليل دلف المدرس (مستر براندوين) ومعه زجاجة مملوءة باللبن وضعها أمامه على المكتب . وتعلقت أبصارنا بهذه الزجاجة , وانطلقت خواطرنا تتساءل : ما صلة اللبن بدروس الصحة , وفجأة نهض المدرس ضارباً زجاجة اللبن بظهر يده فإذا هى تقع على الأرض ويراق ما فيها , وهنا صاح مستر (براندوين) : لا يبكى أحدكم على اللبن المراق . ثم نادانا الأستاذ واحداً واحداً لنتأمل الحطام المتناثر والسائل المسكوب على الأرض , ثم جعل يقول لكل منا: انظر جيدا إننى أريد أن تذكر هذا الدرس مدى حياتك , لقد ذهب اللبن واستوعبته البالوعة , فمها تشد شعرك , وتسمح للهم والنكد أن يمسكا بخناقك فلن تستعيد منه قطرة واحدة . لقد كان يمكن بشىء من الحيطة والحذر أن نتلافى هذه الخسارة . ولكن فات الوقت , وكل ما نستطيعه أن نمحو أثرها وننساها ثم نعود إلى العمل بهمة ونشاط ) ."
الصورة محتاجة توضيح
نظرة على الأرض كدا هتلقيها متغرقة بالماء
ولأن طبعا دا منظر طبيعى فى بلدنا
فلازم يكون فى سبب أقوى دفعنى لتصوير المشهد
الرجل الأبيض اللى واقف دا وقفته كلها شعور بالزهو والرضا عن النفس
ليه؟
لأنه صاحب أنجاز صنع البركة دى بخرطوم ماء موصل بحنفية بيته
لأن قبل تواجده بلحظات كان الشراع فى حالة طيبة لا يعيبه غير المطب المتكسر
وعلى حين غرة ظهر بطل الحلقة وألقى بكيس أو شوال كبير ملىء بالرمل على زلط على جير خليط واضح أن مكانه كان المفترض سلة قمامة
لكنه منح الشرف دا للشارع
وتكملة للمسيرة خرج بخرطوم الماء بعدها بلحظات
ولم يكتفى برش الشارع بحثا عن الطراوة مثلا
لكن أبى ألا أن يجعلها بحيرة تعطل وتبهدل الرائح والغادى
كأنه أخذ على عاتقه تعليم كل من يعبر الشارع فن الأكروبات
نفسى أفهم ليه الأذية دى بس
تحديث : البوست دا مكتوب يوم 16-6-2007
اللى حصل أن النت فصل وأنا بكتبه
يعنى بعد ما ضحيت بجزء من وقتى الثمين ليلة أمتحان ملحقتش أبعت البوست ... الجميل أنى أكتشفت ان بلوجر مشكورا سجله درافت لوحده - توماتيكى - وقتها
ولأن حضرتى معملتش لوج أن فى البلوج من يومها مخدتش بالى
المعنى ... أنى خلصت خلاص
مبروك
أللطيف أن واحد زميلى بيسألنى أمبارح أنت ناوية على أيه الأيام الجاية
قلتله أنا نزلت شغل وقعدت فيه شوية وسبته لأسباب
أنت لحقتى !!
وحاليا أنتقلت من الأنشغال الشديد الى نوع معقول من الفراغ الممتلىء
أضاف الى ملامحه الصارمة نظرة استنكار محدودة عندما أخبرته الممرضة أن الطبيب سيصل متأخرا اليوم وأنها تستطيع تحديد ميعاد آخر له أن كان لا يمكنه الأنتظار , أجابها بنبرته الجافة انه سينتظر , ثم سار بنفس خطواته الجادة ناحية كراسى الأنتظار , أنتظار؟ لا يدرك هؤلاء الحمقى انه لا يمتلك الكثير من الوقت ليضيعه فى فعل اللاشى سوى المكوث والتحديق فى السيراميك فى أنتظار فحص عيون دورى عديم القيمة ؟
نسق بعض الأمور الخاصة بعمله , نظم باقى مواعيده وأعد بعض الخطط المبدئية .. نجح ذلك بشكل جزئى فى تحريك عقارب الساعة .
.. لم يفلح فى ترويض صريخ الهواء العاصف فى خواء صدره .
عبث بأزرار هاتفه , فتح ملف صورتها .. خبأ نظرة الحنين داخل صرامة ملامحه , أخرس وجدانه .. بعد كل هذا الوقت لم يتقن الأمر بعد ؟..يلزمه بعض التمرين , نظر بتمعن أكثر .. أدار شريط ذاكرته لوجهه الآخر – هى أيضا لم تكن ترى للأنتظار قيمة – لزمه بعض التركيز والمقاومة .......... تبدو الآن قبيحة و سخيفة كفاية
أغلق هاتفه , غادر العيادة ..لم يحدد معادا آخر .. ليس للأمر رؤية آخرى
بالتأكيد حملت قدرا من الأمتنان الى عقارب ساعتى عندما زفت الى انه موعد الانصراف ..كان يوم من تلك الايام المرهقة المتخمة بالاعمال فنهضت عن مكتبى وأنا ألقى كل عبارات التأنيب التى أعرفها على علماء الفيزياء والطبيعة الكسولين لأنهم لم يقوموا حتى الآن بأختراع تلك التقنية التى تمكننى من تطبيق خاصية الأنتقال الآنى التى أشبعنا منها نبيل فاروق فى روايته لأجد نفسى فى ذات اللحظة على سريرى فى أعمق انواع النوم .
وفى محاولة لترشيد ما تبقى لى من أنفاس فى ذلك اليوم قررت التوقف عن اللوم وأدخار المتبقى من طاقتى فى محاولة الوصول الى محطة المترو أو كما سمتها صديقتى (بروفة الحرب) .
لم أردد لنفسى قرارى اليومى بالتوقف عن العمل وألتزام المنزل من الغد عندما صعدت الى عربة المترو ولم أجدها - كعادتها - مزدحمة ... و لهؤلاء ممن لم يتعاملوا مع تلك القطارات الصغيرة من قبل – لا اعرف كيف تمضى أيامهم صراحة – فغير مزدحمة تعنى ان عدد الواقفين يساوى عدد الجالسين على كل المقاعد الممتلئة بحيث يمكنك الوقوف مستقيما دون أن تستقر قدم أحدهم مطمئنة آمنة فوق قدمك .
أسندت ظهرى الى العمود المواجه للباب وقررت ان أفكر فى اللا شىء وقبل أن أغمض عينى صعدت مجموعة من الفتيات الصغيرات ما بين الطفولة والمراهقة يرتدين ألوان زاهية متنوعة بشكل مضىء فتراجعت عن قرارى .
بدأن فى ضجة منخفضة من الضحك والحكايات وسعادة تبدو حقيقية عبثت بجزء ما فى ذاكرتى أستدعت به وجوه صديقات المدرسة التى لم تفلح الايام فى محو ملامحها ...
كنا مجموعة متنوعة مثلهن , بينهم فتاة قصيرة كما كانت بيننا دعاء ... دعاء كانت دائما تشعرنى أنها استنساخ من أمها, تفكر وتعبر مثلها , أتذكر اليوم الذى نظرت الى فيه كأنى بلهاء عندما لم أفهم لما تعاتبنى على قبولى تبادل السندوتشات مع سوزان, زغدتنى فى ذراعى ثم "ايه يا بنتى.. انتى مش بتقرفى " لم أفهم و أعتقدت حينها انها تشمئز من الوشم الرباعى الصغير فى يد سوزى .
و مثل سارة كان بينهم تلك الفتاة الأنيقة برقة مميزة ... كانت سارة سريعة التأثر بأى شىء , وكان ذلك يملأ رأسها بالعديد من الأفكار الهشة ,, فى يوم ذهبنا سويا لتصوير ملزمة الدرس وبعض أن عثرنا أخيرا على مكتبة تصوير أخبرتنى أنه علينا أن نبحث عن أخرى لأن صاحب المكتبة كما رأته عبر الزجاج " عنده دقن ومقصر بنطلونه .. أنا مش برتاح للناس دى " أندهشت و جذبت الورق من يدها ودخلت , فدخلت ورائى مستسلمة كالعادة .
طبعا لم تكن المجموعة تشبهنى وصديقاتى فى الألوان الطبيعية ... كانت لهم أسنان وعيون تبدو بيضاء بلمعة ساطعة على خلفية وجوههم السوداء مع ملامح أفريقية غير مصرية .
أنتبهت فى تلك اللحظة أن الزحام يزيد فى كل أنحاء العربة ماعدا الجزء الذى وقفت فيه بجوارهن , يبدو أن البعض كان يتجنب الصعود من الباب الذى استقرت المجموعة أمامه , ربما لم يرغبوا فى الأحتكاك بذوى الوجه المظلمة .
عن الأحتكاك أتذكر يوم أن عاتبت والدة دعاء والدتى لأنها تترك أبنة البواب تلعب معنا عندما تزورنا أبنتها , و أستطردت بأنها تخشى على أبنتها الأحتكاك بمثل هؤلاء " وكدا هتخلى البواب ياخد عليكوا كمان, ناقص بكرة تجيبى ولاد السباك والنجار" , قضيت بعدها أياما أنظر بتمعن الى مروة ابنة البواب كلما رأيتها محاولة أكتشاف ما يجعلها من (هؤلاء ) ممن تتوجس منهم والدة دعاء .
رويت ذلك لأستاذ رأفت ( مدرس العربى والدين وكان يعلمنا الحياة أيضا ) يوما وأخبرته انى لم أستطع أكتشاف ما هو الغريب المختلف فى مروة أو سوزان أو حتى سارة ودعاء ووالدتها , فضحك وأخبرنى أنها فقط أفكار البعض تصور لهم أحيانا أن للطين أنواع ذهبية و أخرى من النحاس , وأن البعض يفضل الخوف من المختلفين عن أن يتقبل هذا الأختلاف.
أوقفت شريط الذكريات وكنت أستعد للنزول عندما أخذت أحدهن نظارة الشمس من أخرى فى مشاجرة تمثلية ولمعت ضحكاتهن البيضاء مرة أخرى , فأبتسمت ... وشاركتنى تلك الفتاة النزول فى نفس المحطة لكن خطواتى كانت أسرع منها ومن الأحداث التالية فلم أستوعبها كلها ...
مجموعة من الصبية الصغار المشاغبين - ممن يعتبرون تلك المحطة منتزها يوميا و مكانا مناسبا لمضايقة الأخرين – بدأوا فى قذف الفتاة بألفاظ قاسية من نوعية " الدنيا ضلمت ليه , الفحم وصل , حاسب دى بتبقع " , ربما جذبها أو دفعها أحدهم فأسمع صوتها عاليا غليظا بالعربية بلهجة متعثرة تهدهم بأن يبتعدوا عنها , قبل أن أصل الى سلم الخروج أشعر بالخسة, ما كان يجب أن أتركها وحيدة , لكنى جبنت , ماذا لو أوذيت أنا أيضا من هؤلاء الصبية , ماذا لو عاملتى هى بعدوانية , كيف لى أن أعرف كيف يفكر (هؤلاء) .
قبل أن أحسم أفكارى عبرت الفتاة بجوارى كالصاروخ و سبقتنى الى السلم , حمدت الله أنها لم تتعرض لأذى وأستأنفت طريقى فأدركتها فى منتصف السلم , أقتربت منها فى تردد , أستجمعت ثقتى ولمست كتفها ثم همست " لما يضايقك حد تانى مترديش عليهم , ابعدى عنهم " على عكس ما توقعت نظرت الى وأجابت فى صوت ذائب فى الخجل والرقة بـ"حاضر" , وفى عينيها لمحت ما يشبه لمعة ضوء السيارات خلف شبورة الصباح , وسقطت نظارة الشمس المكسورة من يدها .
نغمة هاتفى المحمول اللتى شعرت أنها عالية جدا ومزعجة بالأمس ألتقت صوتها بالكاد اليوم بين نغمات الهواء الغاضب كالموج , و نقر المطر فوق رأسى ..
آلو ..السلام عليكم .
...
ايوة السلام عليكم ورحمة الله ..مين؟
...
أيوة يا عمو ...هى لسة راكبة تاكسى وماشية دلوقت ..آه الجو مطر آوى ..هى فى الطريق .
أغلق الخط (مطر آوى وحلو آوى )
أقف على طرف الرصيف مرة آخرى وأنظر فى اتجاه السيارات القادمة كما يفعل الآخرون حولى وهو منكمشون كالكتاكيت الفضية المبتلة ...يستمرون هم فى ممارسة قلق البحث عن مركبة فضائية تحملهم الى أعشاشهم , واستمر أنا فى مراقبة أحداث الفيلم وكأنى أجلس فى مقصورة ملكية ...
تستخدم أم ثلاثينية كل جوارحها وشالها الواسع لتحمى صغيرها فيحاول هو التمرد ...ابتسم له فيرد بمثلها ..تقل محاولات الأنقلاب قليلا ويكتفى بأخراج ذارعه القصير من طرف الشال , ربما صالح نفسه بأنه يوما سيبلغ عمرى ويقف تاركا للمطر حرية معانقة رأسه وكتفيه دون ظلال ...
أخيرا تفوز الفتيات على الرصيف المقابل بسيارة أجرة ... يبدو ان منزلهن بعيد ليتعرضن لكل تلك المباحثات والجدال مع السائقين ... أطمئن عليهن وابتهل أن يصلن بسلام ..
حتما هو شخص شرير من صمم الجيبات الشتوية فاتحة اللون ! ..من هذا العبقرى اللذى ينتج (سابوهات وصنادل ) شتوية !
أعطس مرتين و أشعر ان رأسى أصبح مصدرا آخر للمطر فأقرر التوقف عن تجاهل سيارات الأجرة.. فتختفى جميعها ! هكذا تسير الأمور أحيانا .
انا بضحك من قلبى يا جماعة*
مع انى راح منى ولاعة
و بطاقتى فى جاكتة سرقوها و غتاتة كمان لهفوا الشماعة
بقيت ارجف من الساقعة لكن بضحك
الضحك دة مزيكا..كهربا على ميكانيكا
و اضحك على الشيكا بيكا
تهدىء أحدى الميكروباصات سرعتها بجانبى – للمرة العاشرة تقريبا- لكن هذه المرة يطل صبى السائق من بابها ليسأل عن جهتى , أجيبه فيطلب منى الركوب و يقترح كشهم صغير ان انزل عند أول الطريق حيث سيكون أسهل فى العثور على مواصلة آخرى , أستسلم و أصعد الى مكان ضيق ..يبدو الأمر مقبولا مادام سيتوفر فاصل آخر من الأمطار قبل أن أصل الى البيت .فى سرى أشكر باقى الركاب لكون المكان الوحيد المتبقى لى بجوار الشباك .
يتكلم السائق فجأة بأبوية غير ملائمة لمهنته:
اللى جنبه شباك يفتحه عشان متاخدوش برد
يبدو أن لى دعوات مستجابة ! , يرتب الهواء البارد ملامح وجهى فتبتسم , و تزداد أحداث الفيلم تشويقا .
أنزل لأسير طريق متوسط الى موقف ميكروباسات الخط الآخر المؤدى الى بيتى .
يربت المطر مرة آخرى على كتفى و رأسى كأنها جلسة تدليك و داخل عقلى تترتب العديد من الأمور والأفكار ..يبدو أوسع .. من عدة أيام كنت أخشى عليه من الزحام والأنفجار .
يشبه ذلك النشوة التى تتملكنى عندما ننتهى من تنظيف حجرات المنزل ..
التخلص من الغبار !
شيكا بيكا و بولوتيكا و مقالب انتيكا*
ولا تزعل و لا تحزن اضحك برضه يا ويكا
هاهاها على الشيكا بيكا
, أشعر برضا وأمتنان أكثر لتلك الصدفة التى منحتنى فرصة التواجد فى الشارع فى مثل هذا الطقس المفآجىء .. السىء بالنسبة للأخريين .
, كأنها أحد عروض السيميوليتور simulator و وحدى من يرتدى نظارة المحاكاة و نسوها
... أستمتع بالعرض وحدى ..أنظر اليهم بشفقة طفلة.
*الجزء باللون الفاتح مقتبس من شيكا بيكا لصلاح جاهين